نصب المجانيق

 لنسف قصة الغرانيق

 

 

تأليف/ محمد ناصر الدين الألباني

 

 

 

الطبعة الثالثة ( طبعة جديدة و مصحّحة )

 

1417ه - 1996م

 

 

المكتب الإسلامي

 

 

 

الفهرس

 

·                                 مقدمة

·                                 بين يدي الروايات

·                                 روايات القصة وعِلَـلُها

·                                 بيان بطلان القصة متناً

·                                 كلام الحافظ و الرد عليه

·                                 كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة

·                                 كلام القاضي عِياض في ذلك

·                                 ردُّ الحافظ على ابن العربي و القاضي عِياض و تعقبنا عليه

·                                 كلام الشوكاني

·                                 كلام الآلوسي في إبطال القصة

·                                 سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه و سلم

 

 

مقدمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

     الحمد لله الذي اصطفى نبينا على سائر البشر ، وعصمه من الشيطان أن يوحي إليه بشرِّ ، فقال تعالى مخاطباً إبليس اللعين : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) [الحجر : 42] ، بل جعل تعالى له السلطة على شيطانه القرين ، فكيف من كان عنه من المبعدين ؟ . كما أشار إلى ذلك قول رسوله الكريم : " ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن " قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : " وإياي ، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير "  [1]. وصلى الله على محمد الذي مكنه الله تعالى من إبليس حتى كاد أن يخنقه ، وهَمّ أن يربطه بسارية من سواري مسجد المدينة [2] ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين .

     وبعد ؛ فقد كتب إلى بتاريخ 14 / 7 / 1952 م بعض الأستاذة من الإخوان الأعزة من الباكستان حيث أُوفد إليها لغاية علمية ـ يسألني عن رأيي في حديث الغرانيق الذي اختلف فيه قول حافظين كبيرين ، هما : ابن كثير الدمشقي ، وابن حجر المصري ، فقد أنكره الأول وقواه الآخر . وطلب مني أن لا أضن بالجواب عليه ، فلبثت بعض الأشهر أترقب فرصة أستطيع فيها إجابة طلبه . ثم لقيني أحد الأحبة عقب صلاة عيد الأضحى لهذه السنة ـ 1371 هـ ـ فسألني أيضاً عن حديث الغرانيق ، فأجبته بأنه لا يصح ، بل هو باطل موضوع ، فذكر لي أن أحد الشباب ممن في قلوبهم مرض احتج به على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ـ وحاشاه ـ يتكلم بما يرضي المشركين جذباً لهم إليه ، لأنه بزعمه الباطل لم يكن نبياً صادقاً ، وإنما كان يتظاهر بذلك تَرَؤُساً عليهم كما يهرف بذلك بعض الملاحدة قديماً وحديثاً ، فحملني ذلك على أن اغتنم فرصة العيد المذكور ، فشرعت ـ متوكلاً على الله الغفور ـ في جمع طرق تلك القصة من كتب التفسير والحديث ، وبينت عللها متناً وسنداً ، ثم ذكرت قول الحافظ ابن حجر في تقويتها ، وتعقبته بما يبين وَهْيَ ما ذهب إليه ، ثم عقّبت على ذلك بذكر بعض البحوث والنقول عن بعض الأئمة الفحول ذوي التحقيق في الفروع والأصول ، تؤيد ما ذهبنا إليه من نكارة القصة وبطلانها ، ووجوب رفضها ، وعدم قبولها ، تصديقاً لقوله تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلاً ) [الفتح : 9] ، فجاءت رسالة فريدة في بابها ، قوية في موضوعها ، ترفع حيرة الأخ المؤمن ، وتطيح بشبهة الملحد الأرعن ، وقد سميتها :

" نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق " .

     أسأل الله تعالى أن يجعلها خالصة لوجهه ، ويقبلها مني نصرة لنبيه ، ويدّخر لي ثوابها ليوم أحْوَجُ ما نكون فيه إلى شفاعته ، ( يوم لا ينفع مال ولا بنون * إلا من أتى الله بقلب سليم ) [الشعراء : 88 ـ 89] إنه هو السميع العليم ، والبر الرحيم .

 

دمشق في : 2 ـ 1 ـ 1372 هـ

 

              21 ـ 9 ـ 1952 م

 

محمد ناصر الدين الألباني

 

بين يدي الروايات

 

     وقبل أن أشرع في سَوق روايات القصة ، أرى أنه لا بد من أن نذكر كلمة ، تتميماً لفائدة الرسالة ، فأقول :

     إن هذه القصة قد ذكرها المفسرون عند قوله تعالى : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته والله عليم حكيم ( 52 ) ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد ( 53 ) وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم ( 54 ) ) [الحج] .

وقد اختلفوا في تفسير قوله تعالى : ( تمنى ) و ( أمنيته ) ، وأحسن ما قيل في ذلك : إن ( تمنى ) من " الأمنية " وهي التلاوة ، كما قال الشاعر في عثمان رضي الله عنه حين قتل :

تمنى كتاب الله أول ليلة * * * وآخرها لاقى حِمام المقادر

     وعليه جمهور المفسرين والمحققين ، وحكاه ابن كثير عن أكثر المفسرين ، بل عزاه ابن القيم إلى السلف قاطبة فقال في " إغاثة اللهفان " [3] ( 1 / 93 ) :

           " والسلف كلهم على أن المعنى إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته " وبيّنه القرطبي فقال في " تفسيره " ( 12 / 83 ) :

     وقد قال سليمان بن حرب : إن ( في ) بمعنى : عند ، أي ألقى الشيطان في قلوب الكفار عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم كقوله عز وجل : ( ولبثت فينا ) ( الشعراء : 18 ) ، أي عندنا ، وهذا هو معنى ما حكاه ابن عطية عن أبيه عن علماء الشرق ، وإليه أشار القاضي أبو بكر بن العربي .

     قلت : وكلام أبي بكر سيأتي في محله إن شاء الله تعالى ، وهذا الذي ذكرناه من المعنى في تفسير الآية ، هو اختيار الإمام ابن جرير ، حيث قال بعد ما رواه عن جماعة من السلف ( 17 / 121 ) : " وهذا القول أشبه بتأويل الكلام ، بدلالة قوله تعالى : ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله ءاياته ) [الحج : 52] على ذلك ، لأن الآيات التي أخبر الله جل ثناؤه أنه يحكمها لا شك أنها آيات تنزيله ، فمعلوم بذلك أن الذي ألقى فيه الشيطان ، هو ما أخبر تعالى ذكره أنه نَسَخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك ، فتأمل الكلام إذن : وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تلا كتاب الله وقرأ أو حدّث وتكلم ، ألقى الشيطان في كتاب الله الذي تلاه وقرأه ، أو في حديثه الذي حدّث وتكلم ، فينسخ الله ما يلقي الشيطان بقوله تعالى : فيُـذْهِب الله ما يلقي الشيطان من ذلك ، على لسان نبيه ويبطله .

     هذا هو المعنى المراد من هذه الآية الكريمة ، وهي كما ترى ليس فيها إلا أن الشيطان يلقي عند تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ما يفتتن به الذين في قلوبهم مرض ، ولكن أعداء الدين الذين قعدوا له في كل طريق ، وترصدوا له عند كل مرصد ، لا يرضيهم إلا أن يدسوا فيه ما ليس منه ، ولم يقله رسوله ، فذكروا ما ستراه في الروايات الآتية ، مما لا يليق بمقام النبوة والرسالة ، وذلك دَيْدَنهم منذ القديم ، كما فعلوا في غير ما آية وردت في غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء ، كداود ، وسليمان ، ويوسف عليهم الصلاة والسلام ، فرووا في تفسيرها من الإسرائيليات ما لا يجوز نسبته إلى رجل مسلم فضلاً عن نبي مُـكَرَّم . كما هو مبين في محله من كتب التفاسير والقصص .

فَحذارِ أيها المسلم أن تغتر بشيء منها فتكون من الهالكين ، و " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " كما قال نبيك صلى الله عليه وسلم : ( وإن الله لهادِ الذين ءامنوا إلى صراط مستقيم ) [الحج : 54] .

 

 

 

 

روايات القصة وعِلَـلُها

 

     بعد أن فرغنا من ذكر الفائدة التي وعدنا بها ، أعود إلى ذكر روايات القصة التي وقفنا عليها لكي نسردها رواية رواية ، ونذكر عقب كل منها ما فيها من علة فأقول :

1 ـ عن سعيد بن جبير قال : " لما نزلت هذه الآية : ( أفرءيتم اللات والعزى ) ( النجم : 19 ) ، قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى " فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير ، فسجد المشركون معه ، فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول . . ) إلى قوله : ( عذاب يومٍ عقيمٍ ) ( الحج : 52 ـ 55 ) .

     أخرجه ابن جرير ( 17 / 120 ) من طريقين عن شعبة عن أبي بشر عنه ، وهو صحيح الإسناد إلى ابن جبير ، كما قال الحافظ على ما يأتي عنه ، وتبعه السيوطي في " الدر المنثور " ( 4 / 366 ) ، وعزاه لابن المنذر أيضاً وابن مردويه بعد ما ساقه نحوه بلفظ : " ألقى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى " الحديث ، وفيه :

     " ثم جاءه جبريل بعد ذلك ، قال : اعرض علَّي ما جئتك به ، فلما بلغ : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترجى " قال جبريل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان ! فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ( الحج : 52 ) . وهكذا أخرجه الواحدي في " أسباب النزول " من طريق أخرى عن سعيد بن حسن ، كما سيأتي .

     وقد روي موصولاً عن سعيد ، ولا يصح :

     رواه البزار [4] في " مسنده " عن يوسف بن حماد عن أمية بن خالد ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ـ فيما أحسبه ، الشك في الحديث ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بمكة سورة ( النجم ) حتى انتهى إلى قوله : ( أفرءيتم اللات والعزى ) ( النجم : 19 ) ، وذكر بقيته ، ثم قال البزار :

     " لا نعلمه يروى متصلاً إلا بهذا الإسناد ، تفرد بوصله أمية ابن خالد وهو ثقة مشهور ، وإنما يروى هذا من طريق الكلبي عن أبي صالح ، عن ابن عباس " كذا في " تفسير ابن كثير " ( 3 / 129 ) .

     وعزا الحافظ في " تخريج الكشاف " ( 4 / 144 ) هذه الرواية " للبزار ، والطبري ، وابن مردويه " وعزوه للطبري سهو ، فإنها ليست في تفسيره فيما علمت ـ إلا إنْ كان يعني غير التفسير من كتبه ، وما أظن يريد ذلك ، ويؤيدني أن السيوطي في " الدر " عزاها لجميع هؤلاء إلا الطبري ، إلا أن السيوطي أوهم أيضاً حيث قال عطفاً على ما ذكر : والضياء في " المختارة " بسند رجاله ثقات ، من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ، فذكر الحديث مثل الرواية المرسلة التي نقلناها آنفاً عن الدر نفسه ، ومحل الإيهام هو قوله : " بسند رجاله ثقات " بالإضافة إلى أنه أخرجه الضياء في " المختارة " فإن ذلك يوهم أنه ليس بمعلول ، وهذا خلاف الواقع ، فإنه معلول بتردد الراوي في وصله كما نقلناه عن " تفسير ابن كثير " وكذلك هو في " تخريج الكشاف " وغيره ، وهذا ما لم يرد ذِكرُه في سياق السيوطي ، ولا أدري أذلك اختصار منه ، أم من بعض مخرجي الحديث ؟ [5] وأياً ما كان ، فما كان يليق بالسيوطي أن يغفل هذه العلة ، لا سيما وقد صرح بما يشعر أن الإسناد صحيح ، وفيه من التغرير ما لا يخفى ، فإن الشك لا يوثق به ، ولا حقيقة فيه ، كما قال القاضي عياض في " الشفاء " ( 2 / 118 ) وأقره الحافظ في " التخريج " لكنه قال عقب ذلك :

     " ورواه الطبري من طريق سعيد بن جبير مرسلاً ، وأخرجه ابن مردويه من طريق أبي عاصم النبيل ، عن عثمان بن الأسود ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس نحوه ، ولم يشك في وصله ، وهذا أصح طرق الحديث . قال البزار . . . " .

     قلت : وقد نقلنا كلام البزار آنفاً ، ثم ذكر الحافظ المراسيل الآتية ، ثم قال :

     " فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً " .

     قلت : وفي عبارة الحافظ شيء من التشويش ، ولا أدري أذلك منه ، أم من النساخ ؟ وهو أغلب الظن ، وذلك لأن قوله : " وهذا أصح طرق هذا الحديث " إن حملناه على أقرب مذكور ، وهو طريق ابن مردويه الموصول كما هو المتبادر ، منعنا من ذلك أمور :

     الأول : قول الحافظ عقب ذلك : " فهذه مراسيل يقوي بعضها بعضاً " ، فإن فيه إشارة إلى أن ليس هناك إسناد صحيح موصول يعتمد عليه ، وإلا لَعرَّج عليه وجعله أصلاً , وجعل الطريق المرسلة شاهدة ومُقَوية له ، ويؤيده الأمر الآتي وهو :

     الثاني : وهو أن الحافظ لما رَدّ على القاضي عياض تضعيفه للحديث من طريق إسناد البزار الموصول بسبب الشك ، قال الحافظ :

     " أما ضعفه فلا ضعف فيه أصلاً ( قلت : يعني في رواته ) ، فإن الجميع ثقات ، وأما الشك فيه ، فقد يجيء تأثيره ولو فرداً غريباً ـ كذا ـ لكن غايته أن يصير مرسلاً ، وهو حجة عند عياض وغيره ممن يقبل مرسل الثقة ، وهو حجة إذا اعتضد عند من يَرُدّ المرسل ، وهو إنما يعتضد بكثرة المتابعات " .

     فقد سلَّم الحافظ بأن الحديث مُرْسَلٌ ، ولكن ذهب إلى تقويته بكثرة الطرق ، وسيأتي بيان ما فيه في ردنا عليه قريباً إن شاء الله تعالى .

     فلو كان إسناد ابن مردويه الموصول صحيحاً عند الحافظ ، لرد به على القاضي عياض ، ولما جعل عمدته في الرد عليه هو كثرة الطرق ، وهذا بين لا يخفى .

     الثالث : أن الحافظ في كتابه " فتح الباري " لم يُشِرْ أدنى إشارة هذه الطريق فلو كان هو أصح طرق الحديث ، لذكره بصريح العبارة ، ولجعله عمدته في هذا الباب كما سبق .

     الرابع : أن من جاء بعده ـ كالسيوطي وغيره ـ لم يذكروا هذه الرواية .

     فكل هذه الأمور تمنعنا من حمل اسم الإشارة ( هذا ) على أقرب مذكور ، وتضطرنا إلى حمله على البعيد ، وهو الطريق الذي قبل هذا ، وهو طريق سعيد بن جبير المرسل . وهو الذي اعتمده الحافظ في " الفتح " وجعله أصلاً ، وجعل الروايات الأخرى شاهدة له ، وقد اقتدينا نحن به ، فبدأنا أولاً بذكر رواية ابن جبير هذه ، وإن كنا خالفناه في كون هذه الطرق يقوي بعضها بعضاً .

     قلت : هذا مع العلم أن القدر المذكور من إسناد ابن مردويه الموصول رجاله ثقات رجال الشيخين ، لكن لا بد أن تكون العلة فيمن دون أبي عاصم النبيل ، ويقوي ذلك ، أعني كون إسناده مُعَلاًّ أنني رأيت هذه الرواية أخرجها الواحدي في " أسباب النزول " ( ص 233 ) من طريق سهل العسكري قال : أخبرني يحيى ( قلت : هو القطان ) عن عثمان بن الأسود ، عن سعيد بن جبير قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، فألقى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتجى " ففرح بذلك المشركون ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا ، فجاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : اعرض علّي كلام الله ، فلما عرض عليه ، قال : أما هذا فلم آتك به ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله تعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الآية ( الحج : 52 ) .

     فرجع الحديث إلى أنه ـ عن عثمان بن الأسود عن سعيد ـ مرسل ، وهو الصحيح ، لموافقته رواية عثمان هذه رواية أبي بشر عن سعيد .

     ثم وقفت على إسناد ابن مردويه ومتنه ، بواسطة الضياء المقدسي في " المختارة " ( 60 / 235 / 1 ) بسنده عنه قال : حدثني إبراهيم بن محمد : حدثني أبو بكر محمد بن علي المقري البغدادي ، ثنا جعفر بن محمد الطيالسي ، ثنا إبراهيم بن محمد بن عَرْعَرة ، ثنا أبو عاصم النبيل ، ثنا عثمان بن الأسود ، عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس :

     أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى " ، ففرج المشركون بذلك ، وقالوا : قد ذكر آلهتنا فجاءه جبريل ، فقال : اقرأ علّي ما جئتك به ، قال : فقرأ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى ، فقال : ما أتيتك بهذا ، هذا عن الشيطان ، أو قال : هذا من الشيطان ، لم آتك بها ! فأنزل الله ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) إلى آخر الآية " .

     قلت : وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات وكلهم من رجال " التهذيب " إلا من دون ابن عرعرة ، ليس فيهم من ينبغي النظر فيه غير أبي بكر محمد بن علي المقري البغدادي ، وقد أورده الخطيب في " تاريخ بغداد " فقال ( 3 / 68 ـ 69 ) :

     " محمد بن علي بن الحسن أبو بكر المقرىء ، حدث عن محمود ابن خداش ، ومحمد بن عمرو ، وابن أبي مذعور . روى عنه أحمد بن كامل القاضي ، ومحمد بن أحمد بن يحي العطشي " ثم ساق له حديثاً واحداً وقع فيه مكناً بـ ( أبي حرب ) ، فلا  أدري أهي كنية أخرى له ، أم تحرفت على الناسخ أو الطابع ، ثم حكى الخطيب عن العطشي أنه قال : " توفي سنة ثلاثمائة " ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، فهو مجهول الحال ، وهو علة هذا الإسناد الموصول ، وهو غير أبي بكر محمد بن إبراهيم بن علي بن عاصم الأصبهاني المشهور بابن المقرىء ، الحافظ الثقة ، فإنه متأخر عن هذا نحو قرن من الزمان ، وهو من شيوخ ابن مردويه مات سنة ( 381 ) إحدى وثمانين وثلاثمائة ، ووقع في " التذكرة " ( 3 / 172 ) " ومائتين " وهو خطأ .

     فثبت مما تقدم صواب ما كنا جزمنا به قبل الإطلاع على إسناد ابن مردويه " أن العلة فيه فيمن دون أبي عاصم النبيل " ، وازددنا تأكداً من أن الصواب عن عثمان بن الأسود إنما هو عن سعيد بن جبير مرسلاً كما رواه الواحدي ، خلافاً لرواية ابن مردويه عنه .

     وبالجملة ، فالحديث مرسل ، ولا يصح عن سعيد بن جبير موصولاً بوجه من الوجوه .

2 ـ عن ابن شهاب : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قرأ عليهم : ( والنجم إذا هوى ) ( النجم : 1 ) ، فلما بلغ ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، قال : " إن شفاعتهن ترتجى " سها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيه المشركون الذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا بذلك ، فقال لهم : إنما ذلك من الشيطان ، فأنزل الله : ( ومأ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) حتى بلغ ( فينسخ الله ما يلقي الشيطان ) ( الحج : 52 ) .

     رواه ابن جرير ( 17 / 121 ) وإسناده إلى أبي بكر بن عبد الرحمن صحيح ، كما قال السيوطي تبعاً للحافظ ، لكن علته أنه مرسل [6] وعزاه السيوطي لعبد بن حميد أيضاً ، وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق محمد بن فليح ، عن موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب قال : فذكره مطولاً ، ولم يذكر في إسناده أبا بكر بن عبد الرحمن ، فهو مرسل ، بل معضل ، ولفظه كما في " ابن كثير " و " الدر " :

     " لما أنزلت سورة ( النجم ) ، وكان المشركون يقولون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير ، أقررناه وأصحابه ، ولكن لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من الشتم والشر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اشتد عليه ما ناله وأصحابه من أذاهم وتكذيبهم ، وأحزنته ضلالتهم ، فكان يتمنى كفَّ أذاهم , ( وفي " ابن كثير " هدايتهم " ) ، فلما أنزل الله سورة " والنجم " قال : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت ، فقال : " وإنهن لَهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لَهِيَ التي تُرتَجى " فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة ، ودلقت بها ألسنتهم ، وتباشروا بها ، وقالوا : إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر ( النجم ) سجد وسجد كلُّ من حضر من مسلم ومشرك ، ففشت تلك الكلمة في الناس ، وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة ، فأنزل الله ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) ( الحج : 52 ) ، فلما بيّـن الله قضاءه ، وبرّأه من سجع الشيطان ، انقلب المشركون بضلالتهم وعدوانهم للمسلمين ، واشتدوا عليه " [7] .

     وأخرجه البيهقي في " دلائل النبوة " عن موسى بن عقبة ساقه من " مغازيه " بنحوه لم يذكر ابن شهاب كما في " الدر " ( 4 / 367 ) وغيره .

3 ـ عن أبي العالية قال : قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جلساؤك عبيد بني فلان ، ومولى بني فلان ، فلو ذكرت آلهتنا بشيء جالسناك ، فإنه يأتيك أشرف العرب ، فإذا رأوا جلساءك أشرف قومك كان أرغب لهم فيك ، قال : فألقى الشيطان في أمنيته ، فنزلت هذه الآية : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، قال : فأجرى الشيطان على لسانه : " تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى ، مثلهن لا ينسى " قال : فسجد النبي صلى الله عليه وسلم حبن قرأها وسجد معه المسلمون والمشركون ، فلما علم الذي أجري على لسانه ، كبر ذلك عليه ، فأنزل الله : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) إلى قوله ( والله عليم حكيم ) ( 52 ) ( الحج ) .

     أخرجه الطبري ( 17 / 120 ) من طريقين عن داود بن أبي هند عنه ، وإسناده صحيح إلى أبي العالية ، لكن علته الإرسال ، وكذلك رواه ابن المنذر ، وابن أبي حاتم .

4 ـ عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس قالا :

     " جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فتمنى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه ، فأنزل الله عليه : ( والنجم إذا هوى ( 1 ) ما ضل صاحبكم وما غوى ( 2 ) ) ( النجم ) فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى عليه الشيطان كلمتين : " تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى " فتكلم بها ثم مضى ، فقرأ السورة كلها ، فسجد في آخر السورة ، وسجد القوم جميعاً معه ، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه ، وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود ، فرضوا بما تكلم به ، وقالوا : قد عرفنا أن الله يحيي ويميت ، وهو الذي يخلق ويرزق ، ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، إذا جعلتَ لها نصيباً فنحن معك ، قالا : فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام فعرض عليه السورة ، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال : ما جئتك بهاتين ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : افتريت على الله ، وقلت ما لم يقل ، فأوحى الله إليه : ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينآ إليك لتفتري علينا غيره ) [8] إلى قوله : ( ثم لا تجد لك علينا نصيراً ( 75 ) ) ( الإسراء ) ، فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلآ إذا تمنى . . . ) ( الحج : 52 ) ، قال : فسمع كل من المهاجرين بأرض الحبشة أن أهل مكة قد أسلموا كلهم ، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا : هو أحب إلينا ، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان " .

     أخرجه ابن جرير ( 17 / 119 ) عن طريق أبي معشر عنهما ، وأبو معشر ضعيف ، كما قال الحافظ في " التقريب " واسمه نجيح بن عبد الرحمن السندي .

     ثم أخرجه ابن جرير من طريق ابن إسحاق ، عن يزيد بن زياد المدني ، عن محمد بن كعب القرظي وحده به أتمّ منه ، وفيه : " فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، فأصاخوا له ، والمؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم ، ولا يتهمونه على خطأ ولا وهم ولا زلل ، الحديث " .

     ويزيد هذا ثقة ، لكن الراوي عنه ابن إسحاق مدلس ، وقد عنعنه .

5 ـ عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن لا يعيب الله آلهة المشركين ، فألقى الشيطان في أمنيته فقال : " إن الآلهة التي تدعى ، إن شفاعتهن لترتجى ، وإنها لَلْغرانيق العلى " فنسخ الله ذلك ، وأحكم الله آياته : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) [9] حتى بلغ ( من سلطان ) ( النجم ) ، قال قتادة : لما ألقى الشيطان ما ألقى ، قال المشركون : قد ذكر الله آلهتهم بخير ، ففرحوا بذلك ، فذكر قوله : ( ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض ) ( الحج : 53 ) .

     أخرجه ابن جرير ( 17 / 122 ) من طريقين عن معمر عنه ، وهو صحيح إلى قتادة ، ولكنه مرسل أو معضل . وقد رواه ابن أبي حاتم كما في " الدر " بلفظ أتم منه وهو : " قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام ، نعس ، فألقى الشيطان على لسانة كلمة فتكلم بها ، وتعلق بها المشركون عليه ، فقال : ( أفرءئتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، فألقى الشيطان على لسانه ولغى : " وإن شفاعتهن لترتجى وإنها لمع الغرانيق العلى " فحفظها المشركون ، واخبرهم الشيطان أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد قرأها ، فذلت بها ألسنتهم ، فأنزل الله : ( ومأ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) الآية ( الحج : 52 ) ، فدحر الله الشيطان ولقن نبيه حجته " .

6 ـ عن عروة ـ يعني ابن الزبير ـ في تسمية الذين خرجوا إلى أرض الحبشة المرة الأولى ( قلت وفيه : ) " فقال المشركون : لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير ، أقررناه وأصحابه ، فإنه لا يذكر أحداً ممن خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر ، فلما أنزل الله ( عز وجل ) السورة التي يذكر فيها : ( والنجم ) وقرأ : ( أفرءيتم اللات والعزى ( 19 ) ومناة الثالثة الأخرى ( 20 ) ) ( النجم ) ، ألقى الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت فقال : " وإنهن لَمِنَ الغرانيق العُلى ، وإن شفاعتهم لتُرتجى " وذلك من سجع الشيطان وفتنته ، فوقعت هاتان الكلماتان في قلب كل مشرك وذلت بها ألسنتهم ، واستبشروا بها ، وقالوا : إن محمداً قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر السورة التي فيه ( النجم ) سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك ، غير أن الوليد بن المغيرة ـ كان رجلاً كبيراً ـ ، فرفع مِلْءَ كفه تراباً فسجد عليه ، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان على ألسنة المشركين ـ وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ] وأصحابه لما سمعوا الذي ألقى الشيطان في أمنتة النبي صلى الله عليه وسلم [ وحدثهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قرأها في ( السجدة ) ، فسجدوا لتعظيم آلهتهم ، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت الحبشة . . فكَـبُـرَ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أمسى أتاه جبريل ] عليه السلام ، فشكا إليه ، فأمره فقرأ عليه ، فلما بلغها تبرأ منها جبريل عليه السلام [  * وقال : معاذ الله من هاتين ، ما أنزلهما ربي ، لا أمرني بهما ربك ! ! فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليه ، وقال :

     أطعتُ الشيطان ، وتكلمتُ بكلامه وشركني في أمر الله ، فنسخ الله ] عز وجل [  ما ألقى الشيطان ، وأنزل عليه : ( ومآ أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ) إلى قوله : ( لفي شقاق بعيد ( 53 ) ) ( الحج ) . فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم " .

     رواه الطبراني هكذاً مرسلاً ، كما في " المجمع " ( 6 / 32 ـ 34 و 7 / 70 ـ 72 ) [10] وقال :

     " وفيه ابن لهيعة ، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة " .

7- عن صالح قال: "قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إن ذكر آلهتنا بخير ذكرنا إلهه بخير، فألقى في أمنيته: (أفرئيتم اللات و العزى * ومناة الثالثة الأخرى) [النجم]، "إنهن لفي الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" قال: فأنزل الله (و ما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ ...) الآية [الحج:52].

     أخرجه عبد حُميد كما في "الدر" (4/366 من طريق السدي عنه، و أخرجه ابن أبي حاتم السدي لم يتجاوزه بلفظ:

     "قال: خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى المسجد ليصلي فبينما هو يقرأ، إذ قال: (أفرئيتم اللات و العزى * و مناة الثالثة الأخرى) [النجم]، فألقى الشيطان على لسانه فقال: "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى" حتى إذا بلغ آخر السورة سجد و سجد أصحابه، و سجد المشركون لذكر آلهتهم فلما رفع رأسه حملوه فاشتدوا به قطري مكة يقولون: نبي بني عبد مناف، حتى إذا جاء جبريل عرض عليه فقرأ ذينك الحرفين، فقال جبريل: معاذ الله أن أكون أقرأتك هذا! فاشتد عليه، فأنزل الله يطيب نفسه: ( و ما أرسلنا من قبلكَ...) الآية [الحج:52]

     قلت: وقد رُوي موصولاً عن ابن عباس أخرجه ابن مرديه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. و هذا إسناد ضعيف جداً، بل موضوع، فقد قال سفيان: " قال لي الكلبي: كل ما حدثتك عن أبي صالح فهو كذب"، و الكلبي هذا اسمه محمد بن السائب، و قد كان مفسراً نسّابة أخبارياً. وقال ابن حبان: كان الكلبي سبائياً من أؤلئك الذين يقولون: إن علياً لم يمت و أنه راجع إلى الدنيا، و يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً، و إن رأوا سحابة قالوا: أمير المؤمنين فيها". قال: و مذهبه في الدين، و وضوح الكذب فيه أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفه، و يروي عن أبي صالح عن ابن عباس التفسير، و أبو صالح لم ير ابن عباس و لا سمع الكلبي من أبي صالح إلا الحرف بعد الحرف، لا يحل ذكره في الكتب، فكيف الاحتجاج به؟![11]

و روي من وجوه أخرى عن ابن عباس سيأتي ذكرها، لا يصح شيء منها.

8- عن الضحاك قال: في قوله (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ) الآيه [الحج:52] فإن نبي الله صلى الله عليه و سلم و هو بمكه أنزل الله عليه في آلهة العرب، فجعل يتلو اللات و العُزّى، و يُكثر من ترديدها، فسمع أهل مكه النبي صلى الله عليه و سلم يذكر آلهتهم، ففرحوا بذلك، و دنوا يستمعون، فألقى الشيطان في تلاوة النبي صلى الله عليه و سلم: "تلك الغرانيق العلى، و منها الشفاعة ترتجى" فقرأها النبي صلى الله عليه و سلم كذلك، فأنزل الله عليه: (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ و لا نبيٍ) إلى قوله: (و الله عليمٌ حكيمٌ*52*) [الحج].

     أخرجه ابن جرير (17/121) قال: حدثت عن الحسين يقول: سمعت معاذاً يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت معاذاً يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول:

     قلت: و هذا إسناد ضعيف منقطع مرسل، الضحاك هذا الظاهر أنه ابن مزاحم الهلالي الخرساني، هو كثير الإرسال، كما قال الحافظ، حتى قيل: إنه لم يثبت له سماع من أحد من الصحابه، و الراوي عنه عبيد لم أعرفه [12]، و ابو معاذ الظاهر أنه سليمان بن أرقم البصري، و هو ضعيف، كما في "التقريب"، و الراوي عنه الحسين هو ابن الفرج أبو علي و قيل: أبو صالح، و يعرف بابن الخياط و البغدادي، و هو ضعيف متروك، و له ترجمه في "تاريخ بغداد" و "الميزان" و "اللسان" ثم شيخ ابن جرير فيه مجهول لم يُسَمَّ.

9- عن محمد بن فضالة الظفري، و المطلب بن عبدالله بن حنطب قالا: "رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم من قومه كفّاً عنه، فجلس خالياً، فتمنى فقال: ليته لا ينزل عليّ شيء ينفّرهم عني، و قارب رسول الله صلى الله عليه و سلم قومه، و دنا منهم، و دنوا منه، فجلس يوماً مجلساً في ناد من تلك الأندية حول الكعبة، فقرأ عليهم (و النجم إذا هوى (1)) [النجم]، حتى إذا بلغ: (أفرأيتم الاّت و العزى(19) و مناة الثالثة الأخرى(20)) [النجم]، ألقى الشيطان كلمتين على لسانه: "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى"، فتكلم رسول الله صلى الله عليه و سلم بهما ثم مضى، فقرأ السورة كلها، و سجد و سجد القوم جميعاً، و رفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه، و كان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، و يقال: إن أبا أحيحة سعيد بن العاص أخذ  تراباً فسجد عليه رفعه الى جبهته، و كان شيخاً كبيراً، فبعض الناس يقول: إنما الذي رفع التراب الوليد، و بعضهم يقول: أبو أحيحة، و بعضهم يقول: كلاهما جميعاً فعل ذلك. فرفضوا بما تكلم به رسول الله صلى الله عليه و سلم و قالوا قد عرفنا أن الله يحيي و يميت، و يخلق و يرزق، و لكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، و أما إذ جعلت لها نصيباً فنحن معك، فكبُر ذلك على رسول الله صلى الله عليه و سلم من قولهم، حتى جلس في البيت، فلما أمسى أتاه جبريل عليه السلام، فعَرَض عليه السورة فقال جبريل: جئتك  [13]بهاتين الكلمتين؟!! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: قُلـتُ على الله ما لم يقل، فأوحى الله إليه: (و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره و إذاً لا تخذوك خليلاً (73) و لولا أن ثبتناك لقد كِدت تركنُ إليهم شيئاً قليلاً (74) إذاً لأذقناك ضعفَ الحياة و ضعفَ المماتِ ثمّ لا تجدُ لك علينا نصيراً (75)) [الإسراء].

     أخرجه ابن سعيد في "الطبقات" (ج1 ق1 ص 137) [14]: أخبرنا محمد بن عمر قال: حدثني يونس بن محمد بن فضالة الظفري عن أبيه، قال: و حدثني كثير بن زيد عن المطلب بن عبدالله بن حنطب قالا:

     قلت: و هذا إسناد ضعيف جداً، لأن محمد بن عمر، هو الواقدي، قال الحافظ في "التقريب": "متروك مع سعة علمه". و شيخه في الإسناد الأول يونس بن محمد، و والده محمد بن فضالة، لم أجد لهما ترجمة، ثم رأيت ابن أبي حاتم أوردهما (4/1/55 و 4/2/246) و لم يذكر فيهما جرحاً و لا تعديلاً. و في إسناده الثاني كثير بن زيد وهو الأسلمي المدني مُختَلف فيه، قال الحافظ: "صدوق يخطيء".

     ثم هو مرسل فإن المطلب بن عبدالله بن حنطب كثير التدليس و الإرسال، كما في "التقريب". و لذلك قال القرطبي بعد أن ساق الرواية الثانية، و حُكي عن النحاس تضعيفها كما سبق نقله عنه هناك قال: قلت: فذكره مختصراً ثم قال:

     "قال النحّاس: هذا حديث مُنكَر منقطع، و لا سيما من حديث الواقدي".

10- عن ابن عباس أن  رسول الله صلى الله عليه و سلم قرأ سورة (النجم) و هو بمكة، فأتى على هذه الآية (أفرأيتم اللات و العزى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)) [النجم] فألقى الشيطان على لسانه "أنهن الغرانيق العلى" فأنزل الله: (و ما أرسلنا من قبلك ...) الآية [الحج: 52]، و كذا أورده السيوطي في "الدرر المنثور" (4/267) وقال:

     "أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، و من طريق أبي بكر الهذلي و أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، و من طريق سليمان التيمي عمن حدثه عن ابن عباس".

     قلت: فهذه طرق ثلاث عن ابن عباس و كلها ضعيفه.

     أما الطريق الأولى: ففيها الكلبي و هو كذّاب كما تقدم بيانه قريباً.

     و أما الطريق الثانية: ففيها من لم يسمّ.

     و أما الطريق الثالثة: ففيها أبو بكر الهذلي. قال الحافظ في "التقريب": "أخباري متروك الحديث" لكن قد قرن فيها أيوب، و الظاهر أنه السختياني، فلا بد أن يكون في الطريق إليه من لا يُحتَج به لأن الحافظ قال في "الفتح" (8/355) بعد أن ساقه من الطرق الثلاث:

     "و كلها ضعيف أو منقطع".

     و قد ذكر ما يفيد أن ابن مردويه أخرجها من طريق عباد بن صهيب، و هو أحد المتروكين، كما قال الحافظ الذهبي في ترجمته من "الميزان".

     و له طريق رابع، أخرجه ابن جرير (17/120)، حدثني محمد بن سعد قال: ثني أبي قال: ثني عمي. ثني أبي عن أبيه عن ابن عباس، "أن نبي الله صلى الله عليه و سلم بينما هو يُصلّي إذ نزلت عليه قصة آلهة العرب، فجعل يتلوها، فسمعه المشركون، فقالوا: إنا نسمعه يذكر آلهتنا بخير، فدنوا منه، فبينما هو يقول: (أفرأيتم اللات و العزى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)) [النجم]، ألقى الشيطان: "إن تلك الغرانيق العلى، منها الشفاعة ترتجى"، فجعل يتلوها، فنزل جبريل صلى الله عليه و سلم فنسخها، ثم قال له: (و ما أرسلنا من قبلك ...) الآية [الحج: 52].

     رواه ابن مردويه أيضاً كما في "الدرر" (4/366).

     قلت: و هذا إسناد ضعيف جداً، مُسَلسَل بالضعفاء: محمد ابن سعد، هو ابن محمد بن الحسن بن عطية بن جُنادة أبو جعفر العوفي ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/322-323) و قال: "كان ليّناً في الحديث".

     و والده سعد بن محمد ترجمه الخطيب أيضاً (9/126- 127) و روى عن أحمد أنه قال فيه: "لم يكن ممن يستأهل أن يكتب عنه، و لا كان موضعاً لذلك".

     و عمه هو الحسين بن الحسن بن عطية بن سعد، و هو متفق على ضَعفه ترجمه الخطيب (8/29- 32)و غيره.

     و أبوه الحسن بن عطية ضعيف أيضاً اتفاقاً، و قد أورده ابن حبان في "الضعفاء" و قال: "مُنكَر الحديث، فلا أدري البَلِيّة منه أو من ابنه، أو منها معاً؟" ترجمته في "تهذيب التهذيب".

     و كذا والده عطية، و هو مشهور بالضَّعف [15]

 

 

 

بيان بطلان القصة متناً

 

     تلك هي روايات القصة، و هي كلها كما رأيت مُعَلَّة بالإرسال و الضّعف و الجَهالة، فليس فيها ما يصلُح للإحتجاج به، لا سيّما في مثل هذا الأمر الخطير. ثم إن مما يؤكد ضَعفها بل بطلانها، ما فيها من الاختلاف و النّّكارة مما لا يليق بمقام النبوة و الرسالة، و إليك البيان:

     أولاً: في الروايات كلها، أو جُلها، أن الشيطان تكلم على لسان النبي صلى الله عليه و سلم بتلك الجملة الباطلة التي تمدح أصنام المشركين، "تلك الغرانيق العلى، و إن شفاعتهن لترتجى".

     ثانياً: و في بعضها كالرواية الرابعة: "و المؤمنون مصدقون نبيهم فيما جاء به عن ربهم و لا يتهمونه على خطأ و هم" ففي هذا أن المؤمنين سمعوا ذلك منه صلى الله عليه و سلم، و لم يشعروا بأنه من إلقاء الشيطان، بل اعتقدوا أنه من وحي الرحمن!! بينما تقول الرواية السادسة: "و لم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان" فهذه خلاف تلك.

     ثالثاً: و في بعضها كالرواية (1و 4 و 7 و 9): أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي مدة لا يدري أن ذلك من الشيطان، حتى قال له جبريل: "معاذ الله! لم آتك بهذا، هذا من الشيطان!!".

     رابعاً: و في الرواية الثانية أنه صلى الله عليه و سلم سها حتى قال ذلك! فلو كان كذلك، أفلا ينتبه من سهوه؟!

     خامساً: في الرواية العاشرة الطريق الرابع: أن ذلك ألقيَ عليه و هو يصلي!!

     سادساً: و في الرواية (4 و 5 و 9 ) أنه صلى الله عليه و سلم تمنّّى أن لا ينزل عليه شيء من الوحي يَعيبُ آلهة المشركين، لئلا ينفروا عنه!! و انظر المقام الرابع من كلام ابن العربي الآتي (ص50)
     سابعاً: و في الرواية (4 و 6 و 9) أنه صلى الله عليه و سلم قال عندما أنكر جبريل ذلك عليه "أفتريتُ على الله، و قلتُ على الله ما لم يقل، و شركني الشيطان في أمر الله!!".

     فهذه طامّات يجب تنزيه الرسول منها لا سيّما هذا الأخير منها فإنه لو كان صحيحاً لصدق فيه، عليه السلام، - وحاشاه- قوله تعالى: "و لو تقول علينا بعض الأقاويل (44) لأخذنا منه باليمين (45) ثم لقطعنا من الوتين (46)) [الحاقة]

     فثبت مما تقدم بطلان هذه القصة سنداً و متناً. و الحمد لله على توفيقه و هدايته.

 

 

 

كلام الحافظ و الرد عليه

 

     وقد يقال: إن ما ذهبت إليه من تضعيف القصة سنداً، و إبطالها متناً، يخالف ما ذهب إليه الحافظ ابن حجر من تقويتها كما سبق الإشارة إليه آنفاً.

     فالجواب: أنه لا ضَير علينا منه، و لئن كنا خالفناه، فقد وافقنا جماعة من أئمة الحديث و العلم سيأتي ذكرهم، فاتباعهم أولى، لأن النقد العلمي معهم، لا لأنهم كثرة، و رحم الله من قال: "الحق لا يعرف بالرجال إعرف الحق تعرف الرجال".

     و لبيان ذلك لا بد لي من أن أنقل كلام الحافظ بتمامه، ثم أتبعه ببيان رأينا فيه، و الصواب الذي نرمي إليه فأقول: قال الحافظ في "الفتح" (8/354-355) بعد أن ساق الرواية الأولى و خرّجها هي و غيرها مما تقدم:

     "و كلها سوى طريق سعيد بن جبير، إما ضعيف و إما منقطع، ولكن لكثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلاً، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط "الصحيحين" (ثم ذكر الرواية الثانية و الثالثة ثم قال: ) و قد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، و هو إطلاق مردود عليه، و كذا قول عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، و لا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعف نقلته، و اضطراب رواياته، و انقطاع إسناده، و كذا قوله: و من حملت عنه هذه القصة من التابعين و المفسرين، لم يسندها أحد منهم، ثم ردّه من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: و لم ينقل ذلك انتهى. و جميع ذلك لا يتمشى مع القواعد، فإن الطرق إذا كثرت و تباينت مخارجها، دلّ ذلك على أن لها أصلاً، و قد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح و هي مراسيل يحتج بها من يحتج بالمرسل، و كذا من لا يحتج به لا اعتضاد بعضها ببعض".

قاعدة تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها:

     و الجواب عن ذلك من وجوه:

     أولاً: أن القاعدة التى أشار إليها، و هي تقوية الحديث بكثرة الطرق ليست على إطلاقها، و قد نبّه على ذلك غير واحد من علماء الحديث المحققين، منهم الحافظ أبو عمر بن الصلاح حيث قال رحمه الله في "مقدمة علوم الحديث" (ص36- 37):

     "لعل الباحث الفهم يقول: إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها، مع كونها قد رُويَت بأسانيد كثيرة من وجوه عديدة، مثل حديث: "الأذنان من الرأس" [16]  و نحوه، فهلاّ جعلتم ذلك و أمثاله من نوع الحسن لأن بعض ذلك عضد بعضاً كما قلتم في نوع الحسن على ما سبق آنفاً؟!

     و جواب ذلك أنه ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت فمنه ما يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئاً من ضعف حفظ روايه، و لم يختلّ فيه ضبطه له، و كذلك إذا كان ضَعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر  [17] و من ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، و تقاعد هذا الجابر عن جبره و مقاومته، و ذلك كالضعيف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب، أو كون الحديث شاذّاً. و هذه جملة تفاصيلها تُدرَك بالمباشرة و البحث، فاعلم ذلك فإنه من النفائس العزيزة"

     قلت: و لقد صدق رحمه الله تعالى، فإن الغَفَلَةَ عن هذه النفيسة قد أوقعت كثيراً من العلماء، لا سيّما المشتغلين منهم بالفقه في خطأ فاضح، ألا وهو تصحيح كثير من الأحاديث الضعيفة اغتراراً بكَثرة طُرقها، و ذهولاً منهم عن كون ضعفها من النوع الذي لا ينجبر الحديث بضعفها، بل لا تزيده إلا وَهناً على وهن، و من هذا القبيل حديث ابن عباس في هذه القصة، فإن طرقه كلها ضعيفة جداً كما تقدم، فلا يتقوى بها أصلاً.

     لكن يبقى النظر في طرق الحديث الأخرى، هل يَتَقَوّى الحديث بها، أم لا؟

     فاعلم أنها كلها مرسلة، و هي على إرسالها معلة بالضعف و الجهالة كما سبق تفصيلها، سوى الطرق الأربعة الألى منها (رقم 1 و 2 و 3 و 5) فهي التي تستحق النظر، لأن الحافظ رحمه الله جعلها عمدته في تصحيحه هذه القصة، و تقويته لها بها، و هذا مما نخالفه فيه، و لا نوافقه عليه، و بيان ذلك يحتاج إلى مقدمة وجيزه مفيدة إن شاء الله تعالى، و هي:

     ضعف الحديث المرسل:

     الوجه الثاني: و هو يحتوي على تحقيق أمرين أساسيين:

     الأول: أن الحديث المُرسَل، ولو كان المُرسِل ثقة، لا يُحتج به عند أئمة الحديث، كما بيّنه ابن الصلاح في "علوم الحديث" و جزم هو به فقال (ص58):

     "ثم اعلم أن حكم المُرسَل حكم الحديث الضعيف، إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر كما سبق بيانه ... و ما ذكرناه من سقوط الإحتجاج بالمرسل و الحكم بضَعفه، هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفّاظ الحديث، و نقاد الأثر، و قد تداولوه في تصانيفهم".

     الأمر الثاني: معرفة سبب عدم احتجاج المحدثيين بالمُرسَل من الحديث، فاعلم أن سبب ذلك إنما هو جَهالة الوساطة التي روى عنها المُرسِل الحديث، و قد بيّن ذلك الخطيب البغدادي في "الكفاية في علم الرواية" حيث قال (ص 287) بعد أن حكى الخلاف بالعمل المرسل:

     "و الذي نختاره سقوط فرض العمل بالمراسيل، و أن المرسل غير مقبول، و الذي يدل على ذلك أن إرسال الحديث يؤدي إلى الجهل بعين راويه، و يستحيل العلم بعدالته مع الجهل بعينه، وقد بيّنا من قبل أنه لا يجوز قبول الخبر إلا ممن عرفت عدالته، فوجب كذلك كونه غير مقبول، و أيضاً فإن العدل لو سئل عمن أرسل عنه؟ فلم يُعدّله، لم يجب العمل بخبره، إذا لم يكن معروف العدالة من جهة غيره، و كذلك حاله إذا ابتدأ الإمساك عن ذكره و تعديله، لأنه من الإمساك عن ذكره غير مُعدّل له، فوجب أن لا يقبل الخبر عنه".

     و قال الحافظ ابن حجر في "شرح نخبة الأفكار" (ص17) بعد أن ذكر الحديث المرسل في "أنواع الحديث المردود":

     " و إنما ذكر في قسم المردود للجهل بحال المحذوف، لأنه يحتمل أن يكون صحابياً، و يحتمل أن يكون تابعياً، و على الثاني يحتمل أن يكون ضعيفاً، و يحتمل أن يكون ثقة، و على الثاني يحتمل أن يكون حُمل عن صحابي، و يحتمل أن يكون حمل عن تابعي آخر و على الثاني فيعود الإحتمال السابق و يتعدد، أما بالتجويز العقلي، فإلى مالا نهاية، و أما بالإستقراء، فإلى ستة أو سبعة، و هو أكثر ما وجد من رواية بعض التابعين عن بعض، فإن عرف من عادة التابعي أنه لا يرسل إلا عن ثقة، فذهب جمهور المحدثين إلى التوقف، لبقاء الإحتمال، وهو أحد قولي أحمد، و ثانيهما: يقبل مطلقاً، و قال الشافعي رضي الله عنه: يُقبل إن اعتضد بمجيئه من وجه آخر يباين الطريق الأولى مسنداً كان أو مرسلاً ليترجّح احتمال كون المحذوف ثقة في نفس الأمر"

     قلت: فإذا عرف أن الحديث المُرسَل لا يقبل، و أن السبب هو الجهل بحال المحذوف فيرد عليه أن القول بأنه يقوى بمرسل آخر غير قوي لإحتمال أن يكون كل من أرسله إنما أخذه عن راوٍ واحد، و حينئذ ترد الاحتمالات الذي ذكرها الحافظ، و كأن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال و قوته، فاشترط في المرسل الآخر أن يكون مُرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح (ص35) و كأن ذلك لَيغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر.

     و هذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي رحمه الله فاحفظها و راعِها فيما يمر بك من المرسَلات التي تذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسَلين دون أن يراعوا هذا الشرط المهم.

     ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية قد نصّ أيضاً على هذا الشرط في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة و الموضوعة (حديث 405/221)، فقال ابن تيمية رحمة الله تعالى:

     "و أما أسباب النزول، فغالبها مرسل، ليس بمسند، لهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها. و في لفظ: ليس لها أصل: التفسير و المغازي و الملاحم. يعني أن أحاديثها مرسلة، ليست مسندة".

     و المراسيل قد تنازع الناس في قَبولها وردها. و أصح الأقوال: أن منها المقبول، و منها المردود، و منها الموقوف، فمن عُلم من حاله أنه لا يرسل إلا عن ثقة قُبل مُرسَلُه، و من عُرف أنه يُرسِل عن الثقة و غير الثقة، كان إرساله رواية عمن لا يُعرف حاله، فهو موقوف. و ما كان من المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات، كان مردوداً، و إن جاء المرسَل من وجهين، كل من الروايين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه فإن مثل ذلك لا يُتصور في العادة تماثل الخطأ فيه و تعمد الكذب...".

     قلت: و مع أن التحقق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع، ليس بالأمر الهيِّن، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يَردُ إشكال آخر، وهو أنه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفاً، و عليه يحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، و يحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوى الحديث بكثرة طرقه، و مع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل و إن تعددت طرقه. و هذا التحقيق مما لم أجد مَن سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى و له الشكر، و إن أخطأت فمن نفسي، و أستغفر الله من ذنبي.

     و بالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسل الذي تعدد مرسِلوه أحد الاحتمالين: الأول: أن يكون مصدر المرسلين واحداً.

     الثاني: أن يكونوا جمعاً، و لكنهم جميعاً ضعفاء ضعفاً شديداً. و بعد هذه المقدمة نستطيع أن نقول:

     إننا لو ألقينا النظر على روايات هذه القصة، لألفيناها كلها مرسَلة، حاشا حديث ابن عباس، و لكن طرقه كلها واهية شديدة الضعف لا تنجبر بها تلك المراسيل، فيبقى النظر في هذه المراسيل، و هي كما علمت سبعة، صح إسناد أربعة منها، و هي مرسل سعيد بن جبير، و أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، و أبي العالية (رقم1-3)، و مرسل قتادة، رقم (5) وهي مراسيل يرد عليها أحد الاحتمالين السابقين، لأنهم من طبقة واحدة: فوفاة سعيد بن جبير سنة (95) و أبي بكر بن عبد الرحمن سنة (94)، و أبي العالية – و اسمه رفيع مصغراً – سنة (90) و قتادة سنة بضع عشرة و مائة، و الأول كوفي، و الثاني مدني، و الأخيران بصريان.

     فجائز أن يكون مصدرهم الذي أخذوا منه هذه القصة ورووها عنه، واحداً لا غير، وهو مجهول.

     و جائز أن يكون جمعاً، و لكنهم ضعفاء جميعاً، فمع هذه الاحتمالات لا يمكن أن تطمئن النفس لقَبول حديثهم هذا، لا سيّما في مثل هذا الحدث العظيم الذي يمسّ المقام الكريم، فلا جَرَم تتابع العلماء على إنكارها، بل التنديد ببطلانها، و لا وجه لذلك من جهة الرواية إلا ما ذكرنا، و إن كنت لم أقف على من صرّح بذلك كما ذكرت آنفاً. قال الفخر الرازي في "تفسيره" (6/193):

     "روى عن محمد بن إسحاق بن خزيمة [18] أنه سئل عن هذه القصة؟ فقال: "هذا من وضع الزنادقة"، و صنّف فيه كتاباً. و قال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: "هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل" ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، و أيضاً: فقد روى البخاري في "صحيحه" أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ سورة (النجم) و سجد و سجد فيها المسلمون و المشركون، و الإنس و الجن، و ليس فيه حديث الغرانيق وروى هذا الحديث من طرق كثيرة، و ليس فيها البتة حديث الغرانيق.

     و قد تبع هؤلاء جماعة من الأئمة العلماء، و هاك أسماءهم على ترتيب وفياتهم:

1-                                أبو بكر محمد بن عبدالله بن محمد المعروف بابن العربي توفي سنة (542)، في تفسيره "أحكام القرآن".

2-                                القاضي عياض بن موسى بن عياض (544) في كتابه "الشفا في حقوق المصطفى".

3-                                فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن الرازي (606) في تفسيره "مفاتيح الغيب" (6/193-197) و قد مضى بعض كلامه في ذلك.

4-                                محمد بن أحمد الأنصاري أبو عبدالله القرطبي في "أحكام القرآن" (12/80-84).

5-                                محمد بن يوسف بن علي الكرماني من شرّاح "البخاري" (786)، وقد نقل كلامه في ذلك الحافظ في "الفتح" (8/498).

6-                                محمود بن أحمد بدر الدين العيني (855) في "عمدة القاري" (9/47).

7-                                محمد بن علي بن محمد اليمني الشوكاني (1250) في "فتح القدير" (3/247-248).

8-                                السيد محمود أبو الفضل شهاب الدين الآلوسي (1270) في "روح المعاني" (17/160-169).

9-                                صديق حسن خان أبو الطيب (1307) في تفسيره "فتح البيان".

10-                             محمد عبده المصري الأستاذ الإمام (1323) في رسالة خاصة له في هذه القصة

     و إذا عرفت هذا فلا بأس من ذكر كلمات بعض هؤلاء العلماء، لما فيها من الفوائد و التحقيقات التي تزيد القارئ إيماناً ببطلان القصة، و تجعله يتبين أن النقد العلمي الرجيح يتفق دائماً مع النقد الحديثي الصحيح، لأن كلاًّ منهما يقوم على قواعد علمية دقيقة لا تقبل التغيير و التبديل، و أنا أكتفي هنا بكلمات أربعة منهم. و من شاء الزيادة فليرجع إلى المصادر الأخرى التي أشرنا إليها، و الأربعة هم: 1- ابن العربي 2- القاضي عياض 3- الشوكاني 4- الآلوسي.

 

 

 

1- كلام أبي بكر بن العربي في إبطال القصة:

 

     قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر سبب نزول آية الحج التي ذكرناها في أول الرسالة ملخصاً من الروايات التي أوردناها:

     "اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، و يسَّر لكم مقصد التوحيد و مغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من تفضل به على من يشاء و يصرفه عمن يشاء، وقد بيَّنَّا معنى هذه الآية في "فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي" بما نرجو به عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، و نحن الآن نجلو بتلك الفصول الغماء، و نرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء في عشر مقامات.

     المقام الأول: أن النبي صلى الله عليه و سلم إذا أرسل الله إليه الملَك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به حتى بتحقيق أنه رسول من عنده، ولولا ذلك لما صحّت الرسالة، و لا تبينت النبوة، فإذا خلق الله له العلم به تميز عنده من غيره، و ثبت اليقين، و استقام سبيل الدين، و لو كان النبي إذا شافهه الملك بالوحي لا يدري، أمَلَكٌ هو ، أم شيطان، أم أنسان، أم صورة مخالفة لهذه الأجناس ألقت عليه كلاماً و بلغت إليه قولاً لم يصح أن يقول: إنه من عند الله، و لا تثبت عندنا أنه أمر الله، فهذه سبيل متيقنة، و حالة متحققة لا بد منها، و لا خلاف في المنقول و لا في المعقول فيها، و لو جاز للشيطان أن يتمثل فيها، أو يتشبّه بها ما أمناه على آية، و لا عرفنا منه باطلاً من حقيقة، فارتفع بهذا الفصل اللَبس، و صح اليقين في النفس.

     المقام الثاني: أن الله قد عصم رسوله من الكفر، و أَمنه من الشرك، و استقر ذلك من دين المسلمين بإجماعهم فيه و إطباقهم عليه، فمن ادعى أنه يجوز عليه أن يكفر بالله أو يشك فيه طرفة عين، فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه، بل لا تجوز عليه المعاصي في الأفعال، فضلاً عن أن ينسب إلى الكفر في الاعتقاد، بل هو المنزّه عن ذلك فعلاً و اعتقاداً، و قد مهدنا ذلك في كتب الأصول بأوضح دليل.

     المقام الثالث: أن الله قد عرّف رسوله بنفسه و بصّره بأدلته، و أراه ملكوت سماواته و أرضه، و عرّفه سنن من كان قبله من إخوته فلم يكن يخفى عليه من أمر الله ما نعرفه اليوم، و نحن حُثالة أمته، و من خطر له ذلك فهو ممن يمشي مُكِبّاً على وجهه، غير عارف بنبيّه و لا بربه.

     المقام الرابع: تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء على الإسلام ممن صرح بعداوته أن النبي صلى الله عليه و سلم لما جلس مع قريش تمنى أن لا ينزل عليه من الله و حي [19] فكيف يجوز لمن معه أدنى مسكة أن يخطر بباله أن النبي صلى الله عليه و سلم آثر وصل قومه على وصل ربه، و أراد أن لا يقطع أنسه بهم بما ينزل عليه من عند ربه من الوحي الذي كان حياة جسده وقلبه، و أنس و حشته و غاية أمنيته، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أجود الناس، فإذا جاءه جبريل، كان أجود بالخير من الريح المرسَلة، فيؤثر على هذا مجالسته للأعداء؟!.

     المقام الخامس: أن قول الشيطان: "تلك الغرانيق العلى، و أن شفاعتهن لترتجى" للنبي صلى الله عليه و سلم قَبِله منه، فالتبس عليه الشيطان بالملَلك، و اختلط عليه التوحيد بالكفر، حتى لم يفرّق بينهما، و أنا من أدنى المؤمنين منزلة، و أقلهم معرفة بما وفقني الله له، و آتاني من علمه لا يخفى عليَّ و عليكم أن هذا كفر لا يجوز و روده من عند الله، و لو قال أحد لكم لتبادر الكل إليه قبل التفكير بالإنكار و الردع و التثريب و التشنيع، فضلاً عن أن يجهل النبي صلى الله عليه و سلم حال القول، و يخفى عليه قوله و لا يتفطن لصفة الأصنام بأنها "الغرانيق العلى و أن شفاعتهن ترتجى" و قد علم علماً ضرورياً أنها جمادات لا تسمع و لا تبصر، و لا تنطق و لا تضر،  و لا تنفع و لا تنصر و لا تشفع، بهذا كله كان يأتيه جبريل الصباح و المساء، و عليه انبنى التوحيد و لا يجوز نسخه من جهة المنقول، فكيف يخفى هذا على الرسول؟! ثم لم يَكْفِ هذا حتى قالوا: إن جبريل عليه السلام لما عاد إليه بعد ذلك ليعارضه فيما ألقي إليه من الوحي كررها عليه جاهلاً بها – تعالى الله عن ذلك- فحينئذ أنكرها عليه جبريل، و قال له: "ما جئتك بهذا!" فحزن النبي صلى الله عليه و سلم و أنزل عليه: "وَ إن كادُوا لَيَفْتِنونَكَ عن الذي أوْحَينا إلَيكَ لتفتري عَلينا غَيره" [الإسراء:73] فيالله و المتعلمين و العالمين من شيخ فاسد موسوس هامد لا يعلم أن هذه الآية نافية لما زعموا، مبطلة لما رووا و تقوّلوا. وهو:

     المقام السادس: و ذلك أن قول ابن العربي: "كاد يكون كذا" معناه قارب و لم يكن فأخبر الله في هذه الآية أنهم قاربوا أن يفتنوه عن الذي أوحي إليه، و لم تكن فتنة، ثم قال: "لِتفتَرىَ علينا غَيرَهُ" [الإسراء:73] وهو:

     المقام السابع: ولم يفتر، و لو فتنوك و افتريت لاتخذوك خليلاً، فلم تفتتن و لا افتريت و لا اتخذوك خليلاً، "ولولا أن ثبّتْناك" [الإسراء:74] وهو:

     المقام الثامن: "لقد كِدت تَركن إليهم شَيئاً قَليلاً" [الإسراء:74]، فأخبر الله سبحانه و تعالى أنه ثبته، و قرر التوحيد و المعرفة في قلبه، و ضرب عليه سرادق العِصمة، و آواه في كَنَف الحرمة، و لو وكله إلى نفسه، و رفع عنه ظل عصمته لحظة، لألممت بما راموه و لكنا أمرنا عليك المحافظة، و أشرقنا بنوره الهداية فؤادك، فاستبصر و أزاح عنك الباطل و دحر، فهذه الآية نص في عصمته من كل ما نسب إليه، فكيف يتأولها أحد عدوا عما [20] نسب إليه من الباطل إليه؟!.

     المقام التاسع: قوله: "فما زال مغموماً مهموماً حتى نزلت عليه: (وما أرسلنا من قَبلكَ من رّسولٍ و لا نبي) [الحج:52] [21] ، فأما غمه و حزنه، فبأن تمكن الشيطان مما تمكن مما يأتي بيانه، و كان النبي صلى الله عليه و سلم يعز عليه أن ينال الشيطان شيئاً و إن قل تأثيره.

     المقام العاشر: إن هذه الآية نص في غرضنا، الدليل على صحة مذهبنا، أصل في براءة النبي صلى الله عليه و سلم مما نسب إليه أنه قاله عندنا، و ذلك أنه قال تعالى: (و ما أرسلنا من قبلك من رّسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) [الحج:52] [22]، فأخبر الله تعالى أن من سنته في رسله، و سيرته في أنبيائه، أنهم إذا قالوا عن الله قولاً، زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، كما يفعل سائر المعاصي، كما تقول: ألقيت في الدار كذا، و ألقيت في العِكم [23] كذا، و ألقيت في الكيس كذا، فهذا نص في أن الشيطان زاد في الذي قاله النبي صلى الله عليه و سلم، لا أن النبي صلى الله عليه و سلم قاله، و ذلك أن النبي صلى الله عليه و سلم كما إذا قرأ تلا قرآنا مقطّعاً، و سكت في مقاطع الآي سكوتاً محصلاً، و كذلك كان حديثه مترسلاً فيه، متأنياً، فتبع الشيطان تلك السكتات التي بين قوله: (و مناة الثالثة الأخرى) [النجم:20] و بين قوله تعالى: (ألكُمُ الذّكرُ و له الأنثى) [النجم:21]، فقال يحاكي صوت النبي صلى الله عليه و سلم: "و أنهن الغرانقة العلى و إن شفاعتهن لترتجى"، فأما المشركون، و الذين في قلوبهم مرض لقلة البصيرة و فساد السريرة، فتلوها عن النبي صلى الله عليه و سلم، و نسبوها بجهلهم إليه، حتى سجدوا معه اعتقاداً أنه معهم، و علم الذين أوتوا العلم و الإيمان أن القرآن حق من عند الله، فيؤمنون به، و يرفضون غيره، و تجيب قلوبهم إلى الحق، و تنفر عن الباطل، و كل ذلك إبتلاء من الله، ومحنة، فأين هذا من قولهم؟! و ليس في القرآن إلا غاية البيان بصيانة النبي صلى الله عليه و سلم في الإسرار و الإعلان، عن الشرك و الكُفران، و قد أودعنا إليكم توصية أن تجعلوا القرآن، إمامكم، و حروفه أمامكم، فلا تحملوا عليها ما ليس فيها، و لا تربطوا بها ما ليس منها، و ما هدي لهذا إلا الطبري بجلالة قدره و صفاء فكره، و سعة باعه في العلم، و شدة ساعده و ذراعه في النظر، و كأنه أشار إلى هذا الغرض، و صوَّب على هذا المرمى فقرطس بعد ما ذكر في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، و لو شاء ربك لما رواها أحد، و لا سطرها، و لكنه فعال لما يريد، عصمنا الله و إياكم بالتوفيق و التسديد, و جعلنا من أهل التوحيد بفضله و رحمته".

 

 

 

2- كلام القاضي عِياض في ذلك:

 

     و قال القاضي عِيَاضْ:

     "فاعلم أكرمك الله: أن لنا في الكلام على مشكل الحديث مأخذين:

     أحدهما في توهِين أصله، و الثاني على تسليمه.

     أما المأخذ الأول، فيكفيك أن هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة، و لا رواه ثقة بسند متصل سليم، و إنما أولع به و بمثله المفسرون و المؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح و سقيم، و صدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بُلي الناس ببعض أهل الأهواء و التفسير، و تعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقله، و اضطراب رواياته، و انقطاع إسناده و اختلاف كلماته. فقائل يقول: إنه في الصلاة، و آخر يقول: قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، و آخر يقول: قالها و قد أصابته سِنة، و آخر يقول: بل حَدَّثَ نفسه فسها، و آخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، و إن النبي صلى الله عليه و سلم لما عرضها على جبريل قال: ما هكذا أقرأتك؟! و آخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأها، فلما بلغ النبي صلى الله عليه و سلم ذلك، قال: و الله ما هكذا أنزلت. إلى غير ذلك من اختلاف الرواة، و من حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين و التابعين لم يُسْندها أحد منهم، و لا رفعها إلى صاحب، و أكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، و المرفوع فيه حديث شُعبة عن أبي بِشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فيما أحسب – الشك في الحديث- أن النبي صلى الله عليه و سلم كان بمكة، و ذكر القصة. و قال أبو بكر البزّار: "هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه و سلم بإسناد متصل يجوز ذِكره إلا هذا، و لم يسنده عن شبعة إلا أمية بن خالد، و غيره يرسله عن سعيد بن جبير، و إنما يعرف عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس".

     فقد بيَّن لك أبو بكر رحمه الله أنه لا يُُعرف من طريق يجوز ذكره سوى هذا، و فيه من الضعف ما نبَّه عليه مع وقوع الشك فيه – كما ذكرنا- الذي لا يوثق به و لا حقيقة معه. و أما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه، و لا ذكره لقوة ضعفه و كذبه كما أشار إليه البزّار، و الذي منه في "الصحيح" "أن النبي صلى الله عليه و سلم قرأ: (النجم) و هو بمكة فسجد معه المسلمون و المشركون و الجن و الإنس" هذا توهينه من طريق النقل.

     فأما من جهة المعنى: فقد قامت الحُجَّة، و أجمعت الأمة على عِصمته صلى الله عليه و سلم و نزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل هذا من مدح آلهةٍ غيرٍ الله و هو كفر، أو أن يتسور عليه الشيطان و يشبه عليه القرآن حتى يجعل فيه ما ليس منه، و يعتقد النبي صلى الله عليه و سلم أن من القرآن ما ليس منه حتى ينبهه عليه جبريل عليه السلام، و ذلك كله ممتنع في حقه صلى الله عليه و سلم أو يقول ذلك النبي صلى الله عليه و سلم من قبل نفسه عمداً، و ذلك كفر، أو سهو، و هو معصوم من ذلك كله، و قد قررنا بالبراهين و الإجماع عصمته صلى الله عليه و سلم من جَرَيان الكفر على قلبه أو لسانه لا عمداً و لا سهواً، و أن يشتبه عليه ما يلقيه الملَك بما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل، أو يتقول على الله لا عمداً و لا سهواً ما لم ينزل عليه، و قد قال تعالى: (وَلَوْ تقوَّل علَيْنا بعضَ الأقاويل) الآية [الحاقة:44]، و قال (إذاً لأذقناك ضِعف الحياة و ضِعفَ الممات) [الإسراء:75].

     ووجه ثانٍ: وهو استحالة هذه القصة نظراً و عُرفاً، و ذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الإلتئام متناقض الأقسام، ممتزج المدح و الذم، متخاذل التأليف و النّظم، و لَمَا كان النبي صلى الله عليه و سلم و لا من بحضرته من المسلمين و صناديد المشركين ممن يخفى عليه ذلك، و هذا لا يخفى على أدنى متأمِّل، فكيف بمن رجَحََ حلمه، و اتسع في باب البيان و معرفة فصيح الكلام علمه؟!.

     ووجه ثالث: أنه قد علم من عادة المنافقين، و معاندة المشركين، و ضعفة القلوب، و الجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وَهْلة، و تخليط العدو على النبي صلى الله عليه و سلم لأقل فتنة، و تعييرهم المسلمين و الشماتة بهم الفنية بعد الفنية، و ارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدنى شُبهة، و لم يحكِ أحد في هذه القصة شيئاً سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل و لو كان ذلك لوجدت قريش بها على المسلمين الصولة، و لأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا مكابرة في قصة الإسراء، حتى كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردّة. كذلك ما روي في قصة القضية، و لا فتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، و لا تشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت، فما رُوي عن معاند فيها كلمة، و لا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل على بطلانها و اجتثاث أصلها. و لا شك في إدخال بعض شياطين الإنس و الجن هذا الحديث على مُغفَّلي المحدثين، يلبس به على ضعفاء المسلمين.

     ووجه رابع: ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: (و إن كادوا لَيَفتِنونَك...) الآيتين [الإسراء:73- 74]. و هاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنهم كادوا ليفتنونه حتى يفتري، و أنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا و مفهومه أن الله تعالى قد عصمه من أن يفتري، و ثبته حتى لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً؟ و هم يروون في أخبارهم الواهية أن زاد على الركون الافتراء بمدح آلهتهم، و أنه قال صلى الله عليه و سلم: "أفتريت على الله، و قلت ما لم يقل" و هذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح فكيف و لا صحة له؟ و هذا مثل قوله تعالى في الآية الأخرى: (و لولا فضل الله عليكَ و رحمتهُ لهمّت طائفةٌ منهم أن يُضلّوك و ما يضّلون إلا أنفسهم و ما يضرّونك من شيء) [النساء:113]. و قد روي عن ابن عباس: "كل ما في القرآن "كاد" فهو ما لا يكون".

     قال القاضي:و لقد طالَبَتْه قريش و ثقيف إذا مرّّ بآلهتهم أن يُقبل بوجهه إليها، ووعوده الإيمان به إن فعل، فما فعل و لا كاد أن يضل، و قد ذكرت في معنى الآية تفاسير أخر، ما ذكرناه من نصّ الله على عصمة رسوله برد سفاسفها، فلم يبق في الآية إلا أن الله تعالى امتن على رسوله بعصمته و تثبيته بما كاده به الكفار، و راموا من فتنته، و مرادنا في ذلك تنزيهه و عصمته صلى الله عليه و سلم و هو مفهوم الآية.

     و أما المأخذ الثاني: فهو مبني على تسليم الحديث لو صح أعاذنا الله من صحته، و لكن مع كل حال فقد أجاب عن ذلك أئمة بأجوبه منها الغث و السمين".

     قلت: فذِكر هذه الأجوبة، و ضعفها جلها أو كلها، إلا الأخير منها، فإنه استظهره و رجحه، وهو الذي أجاب به ابن العربي فيما تقدم من كلامه (ص 53):

     إن الشيطان هو الذي ألقى ذلك في سكتة النبي صلى الله عليه و سلم بين الآيتين، محاكياً نغمة النبي صلى الله عليه و سلم و أشاع ذلك المشركون عنه صلى الله عليه و سلم، و لم يقدح ذلك عند المسلمين لحفظه السورة قبل ذلك على ما أنزلها الله، و تحققهم من حال النبي صلى الله عليه و سلم في ذمّ الأوثان و عيبها على ما عرف منه، و قد حكى موسى بن عُقبة في مغازيه نحو هذا و قال: "إن المسلمين لم يسمعوها، و إنما ألقى الشيطان ذلك في أسماع المشركين و قلوبهم" [24] و يكون ما روى من حزن النبي صلى الله عليه و سلم لهذه الإشاعة و الشبهة و سبب هذه الفتنه.

 

 

 

ردُّ الحافظ على ابن العربي و القاضي عِياض و تعقبنا عليه:

 

     و أما قوله الحافظ في "الفتح" بعد أن نقل خلاصة عن الوجوه التي تقدمت عن الإمامين المذكورَيْن في إعلال القصة و توهينها:

     "و جميع ذلك لا يتمشى على قواعد، فإن الطرق إذا كثرت و تباينت مخارجها، دلّ ذلك على أن لها أصلاً، و قد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، و هي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، و كذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض".

     فأقول: إن هذا الجواب ليس بالقوي على إطلاقه لما بيَّنّا فيما تقدم أن تقوية الحديث بكثرة الطرق ليس قاعدة مضطردة، نعم من ذهب إلى الاحتجاج بالمرسل مطلقاً أو عند اعتضاده، ففي الجواب رد قوي عليه، كالقاضي عياض و غيره ممن يقبل مرسل الثقة [25] أما نحن فهو غير وارد علينا لما أوردنا من الاحتمالات التي تمنع الاحتجاج بالحديث المرسل ولو من غير وجه، ولعل هذا مذهب الحافظ ابن كثير حيث قال عند تفسيره للآية السابقة (3/229):

     "قد ذكر كثير من المفسرين ها هنا قصة الغرانيق، و ما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة، ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، و لكنها من طرق كلها مرسلة، و لم أرها مسندة من وجه صحيح".

     فإن ابن كثير يعلم أن بعض هذه المراسيل التي أشار إليها أسانيدها صحيحة إلى مُرْسِلها، فلو كان بعضها يعضد بعضاً عنده و تقوى القصة بذلك، لما ضعفها بحجة أنه لم يرها مسندة من وجه صحيح و هذا بيِّن لا يخفى

     ثم إن من الغريب أن الحافظ ابن حجر مع ذهابه إلى تقوية القصة يرى أن فيها ما يُستنكر و أنه يجب تأويله فيقول بعد كلامه الذي نقلته آنفاً:

     "وإذا تقرر ذلك تعيَّن تأويل ما وقع فيها مما يستنكر و هو قوله: "ألقى الشيطان على لسانه: "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه و سلم أن يزيد في القرآن عمداً منه، و كذا سهواً إذا كان مغايراً لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته"

     ثم ذكر الحافظ مسالك العلماء في تأويل ذلك، ثم اعتمد على الوجه الأخير منها. و هو الذي نقلناه عن القاضي عياض قبيل هذا الفصل، و قلنا إنه رجَّحه، ثم قال الحافظ:

     "و هذا أحسن الوجوه، و يؤيِّده ما تقد في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير تمنَّى ب(تلا)".

     فينتج من ذلك أن الحافظ رحمه الله، قد سَّلم أن الشيطان لم يتكلم على لسان النبي صلى الله عليه و سلم بتلك الجملة، و إنما ألقاها الشيطان بلسانه في ستكة النبي صلى الله عليه و سلم، فهذا لا يتفق البته مع القول بصحة القصة، أو أن لها أصلاً، فإن كان يريد بذلك أن لها أصلاً في الجملة، أعني بدون هذه الزيادة، فهذا ليس هو موضع خلاف بينه و بين العلماء الذين ردّ عليهم قولهم ببطلان القصة، و إنما الخلاف في الجملة التي تزعم الروايات أن الشيطان ألقاها على لسانه صلى الله عليه و سلم فإذ قد صرح الحافظ بإنكارها و تنزيه النبي صلى الله عليه و سلم عنها فنستطيع أن نقول لحضرة السائل:

     إن  الحافظ متفق مع ابن كثير – و غيره ممن سبقه و لحقه – على إنكار القصة على ما وردت في الروايات حتى التي صحَّحها الحافظ، و أما ما بقي منها مما لا يتنافى مع عصمة النبي صلى الله عليه و سلم، فلا خلاف في إمكان وقوعها، بل الظاهر أن هذا القدر هو الذي وقع بدليل ظاهر آية الحج حسبما تقدم تفسيرها في أوائل الرسالة [26]

     نعم يرد على الحافظ هنا اعتراضان:

     الأول: تليينه العبارة في إنكار تلك الزيادة، لأنه إنما أنكرها بطريق تأويلها! و حقه أن ينكرها من أصلها، لأن التأويل الذي زعمه ليست تفيده تلك الزيادة أصلاً، لأن الحافظ يقول:

     "إن الشيطان هو الذي ألقى بلسانه في سكتة النبي صلى الله عليه و سلم". و هي تقول: " إن الشيطان ألقى على لسان النبي صلى الله عليه و سلم" فأين هذا من ذلك؟!

     الثاني: تشنيعه القول على ابن العربي و القاضي عياض لإنكارهما القصة، و مع أنه يعلم أنهما أنكراها لم فيها من البواطيل التي لا تتفق مع القول بعصمة الرسول الكريم، منها هذه الزيادة التي وافقها الحافظ على استنكارها، مع فارق شكلي وهو أنهما كانا صريحين في إنكارها من أساسها، بينما الحافظ إنما أنكرها بطريق تأويلها – زعم-

     و من هنا يتبين لك ضعف ما قاله في رده على القاضي في "تخريج الكشاف".

     "و أما طعنه فيه باختلاف الألفاظ فلا تأثير للروايات الواهية في الرواية القوية، فيعتمد من القصة على الرواية الصحيحة، أي: يُعتمد على الرواية المتابعة، و ليس فيها و فيما تابعها اضطراب و الإضطراب في غيرها، و أما طعنه من جهة المعنى فله أسوة كثيرة من الأحاديث الصِّحاح التي لا يؤخذ بظاهرها، بل يرد بالتأويل المعتمد إلى ما يليق بقواعد الدين".

     قلت: إن هذا الرد ضعيف، لأن الرواية الصحيحة التي أشار إليها هي رواية ابن جُبير المتقدمة و فيها كما في غيرها من الروايات المتابعة الأمر المستنكر باعترافه، بل في بعض الروايات عن سعيد ما هو أنكر من ذلك و هو قوله:

     "ثم جاءه جبريل بعد ذلك فقال: عُرض علي ما جئتك به، فلما بلغ "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" قال له جبريل: لم آتك بهذا، و هذا من الشيطان!!" و قد جاء هذا في  غير رواية سعيد كما تقدم، و لازمه أن النبي صلى الله عليه و سلم قد انطلى عليه وحي الشيطان و اختلط عنده بوحي الرحمن، حتى لم يميِّز بينهما، و بقي على هذه الحالة ما بقي، إلى أن جاءه جبريل في المساء! سبحانك هذا بهتان عظيم و افتراء جسيم

     فاتضح أن ليس هناك رواية معتمدة صحيحة بالمعنى العلمي الصحيح، و أن الرواية التي صحيحها الحافظ قد أنكر بعضها هو نفسه فأين الإعتماد.

     و أما قوله: "إن حديث الغرانيق له أسوة بكثير من الأحاديث الصحيحة"، فصحيح لو صح إسناده و أمكن تأويله، و كلا الأمرين لا نسلِّم به. أما الأول فلما علمت من إرساله من جميع الوجوه حاشا ما اشتد ضعفه من الموصول، و إنها على كثرتها لا تعضده. و أما الأمر الآخر فلأن التأويل الذي ذهب إليه الحافظ رحمه الله هو في الحقيقة ليس تأويلاً، بل هو تعطيل لحقيقة الجملة المستنكرة، وهو أشبه ما يكون بتأويلات بل تعطيلات القرامطة و الرافضة للآيات القرآنية و الأحاديث المصطفوية. تأييداً لمذاهبهم الهدّامة و آرائهم الباطلة، خلافاً للحافظ رحمه الله فإنه إنما فعل ذلك دفاعاً عن مقام الحضرة النبوية و العصمة المحمدية، فهو مشكور على ذلك و مأجور، و إن كان مخطئاً عندنا في ذلك التأويل مع تصحيح القصة.

    

 

 

3- كلام الشوكاني:

     و قال الشوكاني رحمه الله تعالى:

     "و لم يصح شيء من هذا، و لا يثبت بوجه من الوجوه، و مع عدم صحته، بل بطلانه فقد دفعه المحققون بكتاب الله سبحانه" ثم ذكر بعض الآيات الدالّة على البطلان ثم قال:

     "وقال إمام الأئمة ابن خزيمة، إن هذه القصة من وضع الزنادقة".

 

 

4- كلام الآلوسي في إبطال القصة:

     و على كل حال فإن الحافظ ابن حجر رحمه الله متفق مع الذين أنكروا القصة على تنزيهه صلى الله عليه و سلم من أن يكون للشيطان تَكلّم على لسانه عليه الصلاة و السلام، فالخلاف بينه و بينهم يكاد يكون شكلياً أو لفظياً، و إنما الخلاف الحقيقي بينهم و بين بعض المتأخرين [27] حيث ذهب إلى تصحيح القصة مع التسليم بها دون استنكار أي شيء منها، أو تأويل! بل جوّز على النبي صلى الله عليه و سلم جميع ما فيها زاعماً أن ذلك لا يتنافى مع عصمته، بل هو تأديب له! في كلام له طويل. يُغني و ضوح بطلانه عن إيراده و تسويد الصفحات لرده، و قد نقله الآلوسي برمّته، ثم رده عليه في كلام متين، ولولا أن هذه العجالة لم توضع لهذه الغاية، لَسُقته بتمامه فأختصر من ذلك على قوله في خاتمة بحثه:

     "لكن إثبات صحة الخبر أشد من خرط القتاد، فإن الطاعنين فيه من حيث النقل علماء أجلاء، عارفون بالغث و السمين من الأخبار، و قد بذلوا الوُسع في تحقيق الحق فيه فلم يرووه إلا مردوداً، وهم أكثر ممن قال بقَوله، و منهم من هو أعلم منه، و يغلب على الظن أنهم و قفوا على رواته في سائر الطرق فرأوهم مجروحين، وفات ذلك القائل بالقََبول [28]. و لَعمري إن القول بأن هذا الخبر مما ألقاه الشيطان على بعض ألسنة الرواة، ثم وفق الله تعالى جمعاً من خاصته لإبطاله، أهون من القول بأن حديث الغرانيق مما ألقاه الشيطان على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم نَسَخَه سبحانه و تعالى، و لا سيّما و هو مما لم يَتوقف على صحته أمر ديني، و لا معنى آية، و لا سِوى أنها يتوقف عليها حصول شبه في قلوب كثير من ضعفاء المؤمنين لا تكاد تدفع إلا بجهد جهيد".

     و هذا آخر الكلام في تحقيق بطلان قصة الغرانيق.

     و قد بقي علينا التعرض لذكر فائدة سبقت مناسبتها وهي سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه و سلم عند قراءة سورة (النجم) وهي تضمن بيان سبب ذلك فأقول:

 

 

 

سبب سجود المشركين مع النبي صلى الله عليه و سلم

 

     رب سائل يقول: إذا ثبت بطلان إلقاء الشيطان على لسانه عليه الصلاة و السلام جملة "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" فَلِمَ إذن سجد المشركين معه صلى الله عليه و سلم و ليس ذلك من عادتهم؟

     و الجواب ما قاله المحقق الآلوسي بعد سطور من كلامه الذي نقلته آنفاً:

     "و ليس لأحد أن يقول: إن سجود المشركين يدل على أنه كان في السورة ما ظاهره مدح آلهتهم، و إلا لما سجدوا، لأننا نقول: يجوز أن يكونوا سجدوا لدهشة أصابتهم و خوف اعتراهم عند سماع السورة لما فيها من قوله تعالى: "و أنه أهلك عاداً الأولى (50) و ثمود فما أبقى (51) و قوم نوح من قبل إنهم كانوا هو أظلم و أطغى (52) و المؤتفكة أهوى (53) فغشّاها ما غشّا (54)" إلى آخر الآيات [النجم]. فاستشعروا نزول مثل ذلك بهم، و لعلهم لم يسمعوا قب ذلك مثلها منه صلى الله عليه و سلم، وهو قائم بين يديْ ربه سبحانه في مقام خطير و جمع كثير، و قد ظنّوا من ترتيب الأمر بالسجود على ما تقدم أن سجودهم و لو لم يكن عن إيمان، كافٍ في دفع ما توهَّموه، و لا تستبعد خوفهم من سماع مثل ذلك منه صلى الله عليه و سلم، فقد نزلت سورة (حم السجده) بعد ذلك كما جاء مصرّحا به في حديث عن ابن عباس. ذكره السيوطي في أول "الإتقان" فلما سمع عُتبة بن ربيعة قوله تعالى فيها: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ و ثمود (13)" [فصّلت]! أمسك على فم رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ناشده الرحم و اعتذر لقومه حين ظنوا به أنه صبأ و قال: "كيف و قد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب؟ فخفت أن ينزل بكم عذاب" و قد أخرج ذلك البيهقي في "الدلائل" و ابن عساكر في حديث طويل عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه.

     و يمكن أن يقال على بعد: إن سجودهم كان لاستشعار مدح آلهتهم، و لايلزم منه ثبوت ذلك الخبر، لجواز أن يكون ذلك الاستشعار من قوله تعالى: "أفرأيتم اللات و العزّى (19) و مناة الثالثة الأخرى (20)" [النجم]، بناء على أن المفعول محذوف و قدّروه حسبما يشتهون، أو على أن المفعول: (ألكم الذكر و له الأنثى (21)" [النجم]. وتوهّموا أن مصب الإنكار فيه كون المذكورات إناثاً، و الحب لشيء يعمي و يُصمّ، و ليس هذا بأبعد من حملهم "تلك الغرانيق العلى و إن شفاعتهن لترتجى" على المدح حتى سجدوا لذلك آخر السورة، مع وقوعه بين ذمين المانع من حمله على المدح في البين كما لا يخفى على من سلمت عين قلبه من الغين".

     "و سبحانك اللهم و بحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك و أتوب إليك".

محمد ناصر الدين الألباني

 

انتهى تبيض هذه الرسالة صباح يوم الإثنين الواقع في 7/3/72ه – 23/11/52 م أسأل الله تعالى أن يفيد بها السائل و سائر المسلمين ويجعلها خالصة لوجه الكريم



( 1 ) : أخرجه أحمد ( رقم 3647 ، 3778 ، 3801 ، 4393 ، ] طبعة المكتب الإسلامي [  ، ومسلم ( 8 / 139 ) عن ابن مسعود .

( 2 ) : جاء ذلك في " صحيح البخاري " ( 3 / 62 ) بشرح ابن حجر ، ومسلم ( 2 / 72 ) ، غيرهما .

( 3 )  ] انظر طبعة المكتب الإسلامي ودار الخاني ، تحقيق الأستاذ محمد عفيفي ، الطبعة الثانية ، 1 / 150 [  .

( 4 )  قلت : وأخرجه الطبراني في " المعجم الكبير " ( ورقة 162 وجه 2 ) من نسخة خطية في المكتبة الظاهرية تحت رقم ( 283  حديث ) ( * ) قال : حدثنا حسين بن إسحاق التستري ، وعبدان بن أحمد ، قالا حدثنا يوسف بن حماد المعنى به ، وفيه : " القى الشيطان على لسانه : تلك الغرانيق العلى ، شفاعتهم ترتجى " . ورواه الضياء المقدسي في " المختارة " ( ق 120/1/2) من طريق الطبراني وابن مرداويه من طرق عن يوسف به .

( * ) ] وقد طبع بتحقيق حمدي عبد المجيد السلفي ، انظر رقم 12/12450 [ .

(  5)  ثم رأيت السيوطي قد أورده في كتابه " أسباب النزول " على الشك في رفعه فأصاب ، فتبين أن لا مسؤولية  فيه على غيره .

( 6 )  وقال النحاس : " هذا حديث منقطع ، وفيه هذا الأمر العظيم "  ذكره القرطبي ( 12/81 ) .

(  7) هذا سياق " الدر "  وهو مختصر عن سياق " ابن كثير " ومما فيه : فأما المسلمون فعجبوا لسجود المشركين معهم على غير إيمان ولا يقين ، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقى الشيطان في مسامع المشركين .

( 8 ) ]  وتمام الآية ( وإذاً لاتخذوك خليلاً (73) ولولاّ ان ثبتناك لقد كدت تركن اليهم شيئا قليلاً ( 74 ) إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيراً ( 75 ) ) [  .

(  9)   ] وتمام الآية ( ومناة الثالثة الأخرى (20 ) ألكم الذكر وله الأنثى (21 ) تلك إذا قسمة ضيزى (22)

         إن هي إلاّ أسماء سميتموهاّ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطان ) [  .

( * ) ]  ما بين الحاصرتين زيادة من " المعجم الكبير " ولم تكن في طبعتنا السابقة ، وانظر المطبوعة 9 / 8316 [  .

(  10) : ثم وقفت عليه في " معجمه الكبير " ج3 ورقة 2 وجه 2 من النسخة الخطية الظاهرية تحت رقم 283 وسنده هكذا : حدثنا محمد بن عمر أبن خالد الحراني : نا ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة به .

( 11 ) نقلته من "ميزان الإعتدال في نقد الرجال" للإمام الذهبي.

( 12 ) ثم تبين لي أنه ابن سليمان الباهلي، و روى عن الضحاك بن مزاحم، و عنه جمع، منهم أبو معاذ الفضل بن خالد النحوي. قال في "التقريب": لا بأس به. و مما ذكرنا نتبين أيضاً أن أبا معاذ الراوي عن عبيد، ليس هو سليمان بن أرقم و إنما هو الفضل بن خالد النحوي أورده ابن أبي حاتم في "الجرح و التعديل" (3/2/61) ولم يذكر فيه جرحاً أو تعديلاً.

(13) كذا في الأصل و هو جائز على الإستفهام الإنكاري، و في القرطبي نقلاً عن الواحدي "ما جئتك"

(14) [انظر طبعة دار صادر 1/205]

(15) قلت: و مما يدل على بطلان نسبة هذه القصة إلى ابن عباس، لا سيّما من رواية أيوب عن عِكرمة عنه، أن الطبراني أخرجها مختصراً في "المعجم الكبير" (ورقة 138 وجه 1) [المطبوعة 11/11866] من طريقين عن عبد الوارث: ثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم سجد و هو بمكة ب (النجم) و سجد معه المسلمون و المشركون، و هذا إسناد صحيح على شرط البخاري، فهذا القدر من القصة هو الصحيح عن ابن عباس و غيره من الصحابة مما سيأتي ذكره.

(16) قلت: هذا الحديث عندنا صحيح لغيره، فقد روي عن سبعة نفر من الصحابة من طرق مختلفة قوّي المنذري، و ابن دقيق العيد، و ابن التركماني، و الزيلعي أحدها، و لذلك أوردناه في كتابنا "صحيح سنن أبي داود" و تكلمنا عليه هناك (رقم 123) ثم نشرناه في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (رقم36)، و ذكرنا فيه طرقه و بعضها صحيح لذاته، فراجعه إن شئت.

     [و انظر "صحيح سنن أبي داود – باختصار السند" للمؤلف، بإشراف زهير الشاويش، طبع مكتب التربية العربي لدول الخليج بالرياض، توزيع المكتب الإسلامي، الحديث برقم 122/ 134]

(17) قلت: و هذا ليس على إطلاقه كما يأتي نقله عن "شرح النّخبة" لابن حجر (ص23)

(18) هو الإمام ابن خُزَمة صاحب "الصحيح" المعروف به، و قد تبع الفخر في عزو هذا الكلام لابن خزيمة المحقق الشوكاني في "فتح القدير" (3/447). و أما ابن حيان فعزاه في تفسيره "البحر" لمحمد ابن اسحاق جامع "السيرة النبوية". و تبعه الآلوسي في تفسيره (17/161). و الأرجح عندي الأول لأن الحافظ ابن حجر ذكر في "الفتح" (8/354) تبعاً لابن كثير أن ابن اسحاق روى هذه القصة في "السيرة" مطولاً، فهذا يُبعِد نسبة ذلك القول إليه، ولو كان له، لنبّه عليه الحافظ عقب ذلك و الله أعلم.

(19) انظر السبب السادس من أسباب بطلان القصة متناً ص 36

(20) كذا في الأصل.

(21) انظر الرواية 3، 4، 6

(22) الأصل (تلاوته)

(23) بكسر العين: العدل

(24) قلت: و نحوه في رواية عروة (رقم 6 ص 24- 25)، و إن كان في آخرها ما يخالف هذا و قد نقلت رواية موسى بن عقبه عن ابن كثير فيما تقدم (ص 19).

(25) تخريج الكشاف (4/112)

(26) و بعد كتابة ما تقدم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى تثبيت القصة بالقدر المذكور، و أن قوله: "تلك الغرانيق العلى ..." لم يلفظ به الرسول صلى الله عليه و سلم، و إنما ألقاه الشيطان في أسماعهم. راجع كلامه في الفتاوى (2/282)

(27) هو الشيخ إبراهيم الكوراني كما صرح بذلك الآلوسي و هو إبراهيم ابن حسن بن شهاب الدين الكردي ولد ب(شهرزور) في شوال (1025ه) و قدم المدينة و لازم القشاشي و اجتمع في مصر عند مروره بها مع الشهاب الخفاجي، توفي بالمدينة في 28 جمادى الأولى سنة (1101ه) كذا في "تاج العروس" للمناوي

 

(28) قلت: هذا فيه بعد لا سيما بالنسبة للحافظ ابن حجر، فلو كان هناك جرح فلا يخفى عليه، و الحق أن الحافظ جرى على بعض القواعد الحديثية فهو أعذر ممن خالفها و لم يجب عنها، و قد أجبنا نحن فيما سبق فالأقرب أن يقال: إنهم وقفوا على علة وهي الإرسال حسبما فصّلنا في سائر الطرق و لكن لم يرها علة فادحة القائل بالقبول.